فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ (22)}
ضرب سبحانه مثلا للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما، فقال: {أفمن يمْشِى مُكِبّا على وجْهِهِ أهدى} والمكبّ والمنكبّ: الساقط على وجهه، يقال: كببته فأكبّ وانكبّ.
وقيل: هو الذي يكب رأسه، فلا ينظر يمينا ولا شمالا ولا أماما، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه.
وقيل: أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق، فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه.
قال قتادة: هو الكافر يكبّ على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه.
والهمزة للاستفهام الإنكاري أي: هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده؟ {أمّن يمْشِى سوِيّا} معتدلا ناظرا إلى ما بين يديه {على صراط مُّسْتقِيمٍ} أي: على طريق مستوي لا اعوجاج به ولا انحراف فيه، وخبر (من) محذوف لدلالة خبر (من) الأولى، وهو أهدى عليه، وقيل: لا حاجة إلى ذلك؛ لأن (من) الثانية معطوفة على (من) الأولى عطف المفرد على المفرد، كقولك: أزيد قائم أم عمرو؟ وقيل: أراد بمن يمشي مكبا على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سويا من يحشر على قدميه إلى الجنة، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه، ومثله قوله: {ونحْشُرُهُمْ يوْم القيامة على وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97].
{قُلْ هُو الذي أنشأكُمْ} أمر سبحانه رسوله أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى {وجعل} لهم {السمع} ليسمعوا به {والأبصار} ليبصروا بها، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير، وقد قدّمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان {والأفئدة} القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله، فذكر سبحانه هاهنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحا للحجة وقطعا للمعذرة، وذما لهم على عدم شكر نعم الله، ولهذا قال: {قلِيلا مّا تشْكُرُون} وانتصاب قليلا على أنه نعت مصدر محذوف، و(ما) مزيدة للتأكيد أي: شكرا قليلا أو زمانا قليلا، وقيل: أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم.
قال مقاتل: يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه {قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض وإِليْهِ تُحْشرُون} أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها، وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره.
ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال: {ويقولون متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي: متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة، والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك؟ والخطاب منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين، وجواب الشرط محذوف، والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا، وهذا منهم استهزاء وسخرية.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ إِنّما العلم عِند الله} أي: إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره، ومثله قوله: {قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد ربّي} [الأعراف: 187] ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب، فقال: {وإِنّما أناْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم، وأبين لكم ما أمرني الله ببيانه.
ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال: {فلمّا رأوْهُ زُلْفة} يعني: رأوا العذاب قريبا، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل، أي: مزدلفا، أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف، أي: ذا زلفة وقرب، أو ظرف، أي: رأوه في مكان ذي زلفة.
قال مجاهد: أي: قريبا.
وقال الحسن: عيانا.
قال أكثر المفسرين: المراد عذاب يوم القيامة، وقال مجاهد: المراد عذاب بدر، وقيل: رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبا منهم، كما يدلّ عليه قوله: {وإِليْهِ تُحْشرُون} وقيل: لما رأوا عملهم السيء قريبا {سِيئتْ وُجُوهُ الذين كفرُواْ} أي: اسودّت وعلتها الكآبة وغشيتها الذلة، يقال: ساء الشيء يسوء، فهو سيء إذا قبح.
قال الزجاج: المعنى تبين فيها السوء أي: ساءهم ذلك العذاب، فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدلّ على كفرهم كقوله: {يوْم تبْيضُّ وُجُوهٌ وتسْودُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106].
قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وابن محيصن بالإشمام {وقِيل هذا الذي كُنتُم بِهِ تدّعُون} أي: قيل لهم توبيخا وتقريعا: هذا المشاهد الحاضر من العذاب، هو العذاب الذي كنتم به تدّعون في الدنيا أي: تطلبونه وتستعجلون به استهزاء، على أن معنى {تدّعون} الدعاء.
قال الفراء: تدّعون تفتعلون من الدعاء، أي: تتمنون وتسألون، وبهذا قال الأكثر من المفسرين.
وقال الزجاج: هذا الذي كنتم به تدّعون الأباطيل والأحاديث.
وقيل: معنى {تدْعُون}: تكذبون، وهذا على قراءة الجمهور: {تدّعون} بالتشديد، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه، والمعنى: أنهم كانوا يدّعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار.
وقرأ قتادة، وابن أبي إسحاق، ويعقوب، والضحاك: {تدعون} مخففا، ومعناها ظاهر.
قال قتادة: هو قولهم: {ربّنا عجّل لّنا قِطّنا} [ص: 16].
وقال الضحاك: هو قولهم: {اللهم إِن كان هذا هُو الحق مِنْ عِندِك فأمْطِرْ عليْنا حِجارة مّن السماء} [الأنفال: 32] الآية.
قال النحاس: تدّعون وتدعون بمعنى واحد، كما تقول قدر واقتدر، وغدا واغتدى، إلاّ أنّ أفعل معناه مضى شيئا بعد شيء، وفعل يقع على القليل والكثير.
{قُلْ أرءيْتُمْ إِنْ أهْلكنِى الله ومن مّعِى} أي: أخبروني إن أهلكني الله بموت أو قتل ومن معي من المؤمنين {أوْ رحِمنا} بتأخير ذلك إلى أجل.
وقيل المعنى: إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب، أو رحمنا فلم يعذبنا {فمن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} أي: فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب.
والمعنى: أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه، كما كان الكفار يتمنونه أو أمهلهم.
وقيل: المعنى إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم.
{قُلْ هُو الرحمن ءامنّا بِهِ} وحده لا نشرك به شيئا {وعليْهِ توكّلْنا} لا على غيره، والتوكل: تفويض الأمور إليه- عزّ وجلّ- {فستعْلمُون منْ هُو في ضلال مُّبِينٍ} منا ومنكم، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف.
قرأ الجمهور: {ستعلمون} بالفوقية على الخطاب.
وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر.
ثم احتجّ سبحانه عليهم ببعض نعمه، وخوّفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال: {قُلْ أرءيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} أي: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا، أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء.
يقال: غار الماء غورا، أي: نضب، والغور الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة، كما يقال: رجل عدل، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف {فمن يأْتِيكُمْ بِماء مّعِينٍ} أي: ظاهر تراه العيون وتناله الدلاء، وقيل: هو من معن الماء، أي: كثر.
وقال قتادة، والضحاك: أي: جار، وقد تقدّم معنى المعين في سورة المؤمن.
وقرأ ابن عباس {فمن يأتيكم بماء عذب}.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {أفمن يمْشِى مُكِبّا} قال: في الضلالة {أمّن يمْشِى سوِيّا} قال: مهتديا.
وأخرج الخطيب في تاريخه، وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هذه الآية: {هُو الذي أنشأكُمْ وجعل لكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قلِيلا مّا تشْكُرُون}» وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات: {وهُو الذي أنشأكُم مّن نّفْسٍ واحدة فمُسْتقرٌّ ومُسْتوْدعٌ} إلى {يفْقهُون} [الأنعام: 98] و{هُو الذي أنشأكُمْ وجعل لكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قلِيلا مّا تشْكُرُون} فإنه يبرأ بإذن الله» وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} قال: داخلا في الأرض {فمن يأْتِيكُمْ بِماء مّعِينٍ} قال: الجاري.
وأخرج ابن المنذر عنه: {إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} قال: يرجع في الأرض.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا: {بِماء مّعِينٍ} قال: ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا: {بِماء مّعِينٍ} قال: عذب. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الملك:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ}
قال ابن جرير: أي: تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقال القاشانيّ: الملك عالم الأجسام، كما أن الملكوت عالم النفوس؛ ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك، بحسب مشيئته بالتبارك، الذي هو غاية العظمة، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت، بمقتضى إرادته بالتسبيح، الذي هو التنزيه، كقوله: {فسُبْحان الّذِي بِيدِهِ ملكُوتُ كُلِّ شيْءٍ} [يس: 83]، كلا بما يناسبه، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام، والتنزه يناسب المجردات عن المادة. فمعنى {تبارك} تعالى وتعاظم، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام، لا بيد غيره، يصرفها كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات، يوجدها على ما يشاء.
{الّذِي خلق الْموْت والْحياة لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} أي: قدر الموت والحياة فأمات من شاء وما شاء، وأحيى من أراد وما أراد، إلى أجل معلوم. أو أوجد الحياة، وأزالها حسبما قدّره.
قال القاشانيّ: الموت والحياة من باب العدم والملكة، فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس. والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له، وعدم الملكة ليس عدما محضا، بل فيه شائبة الوجود. والألم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجوديّ، فلذلك صح تعلق الخلق به، كتعلقه بالحياة، وجعل الغرض من خلقهما بلاء الْإِنْساْن في حسن العمل وقبحه، أي: العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء، وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الْإِنْساْنية بعد وقوع المعلوم، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب، الظاهر بظهور المعلوم؛ لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال، والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه، وبه يظهر آثار الأعمال، كما أن الحياة يظهر بها أصولها، وبها تتفاضل النفوس في الدرجات، وتتفاوت في الهلاك والنجاة. وقدم الموت على الحياة؛ لأن الموت في علم الملك ذاتيّ، والحياة عرضية. وقيل: إن أريد به العدم السابق فتقدمه ظاهر، لسبقه على الوجود، أو العدم اللاحق فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة، وردعا عن ارتكاب المعاصي.
{وهُو الْعزِيزُ} أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل {الْغفُورُ} أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل.
{الّذِي خلق سبْع سماواتٍ طِباقا} قال ابن جرير: طبقا فوق طبق، بعضها فوق بعض.
وقال المهايميّ: أي: يوافق بعضها بعضا بلا تضاد، ليتم أمر الحكمة في الكوائن والفواسد.
وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الْإِنْساْن، فإنه من السموّ، وهو العلو، فسقف البيت سماء. ومنه قوله تعالى: {فلْيمْدُدْ بِسببٍ إِلى السّماء ثُمّ لِيقْطعْ} [الحج: 15] أي: فليمدد بحبل إلى سقف بيته، وهذا الفضاء اللانهائي سماء، ومنه قوله تعالى: {كشجرةٍ طيِّبةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفرْعُها فِي السّماء} [إبراهيم: 24]. والسحاب سماء، ومنه قوله تعالى: {أنزل مِن السّماء ماء}، [البقرة: 22]، والكواكب سماوات؛ فالسماوات السبع المذكورة كثيرا في القرآن الشريف، هي هذه السيارات السبع، وهي طباق، أي: أن بعضها فوق بعض، لأن فلك كل منها فوق فلك غيره.
{مّا ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِن تفاوُتٍ} أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكم، بل راعاها في كل خلقه.
{فارْجِعِ الْبصر} أي: إن شككت فكرِّر النظر {هلْ ترى مِن فُطُورٍ} أي: خلل. وأصل الفطور الصدوع والشقوق، أريد به لازمه، كذا قالوه، والصحيح أنه على حقيقته أي: هل ترى من انشقاق وانقطاع بين السماوات، بحيث تذهب باتصالات الكواكب فتفرقها، وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها؟ كلا! بل هي متجاذبة، مرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في آية:
{أفلمْ ينظُرُوا إِلى السّماء فوْقهُمْ كيْف بنيْناها وزيّنّاها وما لها مِن فُرُوجٍ} [ق: 6].
{ثُمّ ارْجِعِ الْبصر} أي: كرره {كرّتيْنِ} أي: رجعتين أخريين، ابتغاء الخلل والفساد والعبث. والمراد بالتثنية التكرير.
{ينقلِبُ} أي: يرجع {إِليْك الْبصرُ خاسِأ} أي: مطرودا عن إصابة المطلوب.
{وهُو حسِيرٌ} أي: معْيي كالّ.
تنبيهات:
الأول: ذهب الزمخشري إلى أن قوله تعالى: {مّا ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِن تفاوُتٍ} صفة ثانية لقوله: {سبْع سماواتٍ} وضع فيها {خلْقِ الرّحْمنِ} موضع الضمير للتعظيم، والأصل: فيهن، وتابعة القاضي والقاشانيّ، وعبارته: نهاية كمال عالم الملك، لأنها السماوات، لا ترى أحكم خلقا، وأحسن نظاما وطباقا منها. وأضاف خلقها إلى الرحمن، لأنها من أصول النعم الظاهرة, ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضا، وحسن انتظامها وتناسبها. وإنما قال: {ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ} لأن تكرار النظر، وتجوال الفكر، مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق، لا يفيد إلا الخسوء والحسور، تحقق الامتناع، وما أتعب من طلب وجود الممتنع. انتهى.
ولو جعل قوله تعالى: {مّا ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِن تفاوُتٍ} مستأنفا، مقررا بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه، وتناهي حسنه، فيشمل ما قبله- لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله، ويكون كآية:
{أحْسن كُلّ شيْءٍ خلقهُ} [السجدة: 7]، وآية:
{صُنْع اللّهِ الّذِي أتْقن كُلّ شيْءٍ} [النمل: 88]، وتلطف بعضهم فقال: في الآية إشارة إلى قياس تقديره: ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى. وما ترى في خلقه من تفاوت.
الثاني: للإمام ابن حزم رحمه الله كلام في هذه الآية في كتاب (الفِصل) ساقه في مباحثه مع المعتزلة، نأثره هنا لنفاثته، قال رحمه الله:
التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس، أو خرج عن المعهود، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس: تفاوتا، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة؛ لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت، لكذب قول الله تعالى: {مّا ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِن تفاوُتٍ} ولا يكذِّب الله تعالى إلا كافر، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل، مرئي فيه، مشاهد بالعيان فيه، فبطل احتجاجهم.
فإن قال قائل: فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه؟
قيل لهم: هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا، بل هو معدوم جملة، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى. والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يُرى في خلقه.
ثم نقول، وبالله تعالى التوفيق: إن العالم كله ما دون الله تعالى، وهو كله مخلوق لله تعالى، أجسامه وأعراضه كلها، لا نحاشي شيئا منها. ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه، وأنواع أجسامه، جرت القسمة جريا مستويا في تفضيل أجناسه وأنواعه، بحدودها المميزة لها، وفصولها المفرقة بينها، على رتبة واحدة, وهيئة واحدة، على أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع، لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه، ولا تخالف في شيء منه أصلا، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط، ثم تحت نوع الكيفية، ثم تحت اسم العرض، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه، ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم.
وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد، ثم تحت فعل النفس، ثم تحت الكيفية والعرض، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم، وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية، وتحت اسم العرض، وقوعا حقا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف.
وهكذا القول في الظلم والإنصاف، وفي العدل والجور، وفي الصدق والكذب، وفي الزنا والوطء الحلال. وكذلك كل ما في العالم، حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى، وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة؛ فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة؛ ضرورة لا منفك لهم عنها، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا، لكان التفاوت موجودا في خلق الرحمن، وقد كذّب الله تعالى ذلك، وهي أن يرى في خلقه تفاوت. انتهى كلامه.
الثالث: قال الناصر: في قوله تعالى: {ينقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِأ} وضع للظاهر موضع المضمر. وفيه من الفائدة التنبيه على أن الذي يرجع خاسأ حسيرا غير مدرك الفطور، وهو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يدرك شيء، دل على أنه لا شيء.
{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح} قال ابن جرير: وهي النجوم. وجعلها {مصابِيح} لإضاءتها. وكذلك الصبح إنما قيل له: صبح؛ للضوء الذي يضيء للناس من النهار.
{وجعلْناها رُجُوما لِّلشّياطِينِ} قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله تعالى: {وجعلْناها} على جنس المصابيح، لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، والله أعلم.
وقال القاضي: أي: وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل: معناه وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس، وهم المنجمون.
قال الشهاب: مرّضه لأنه خلاف الظاهر المأثور. والرجم يكون بمعنى الظن، مجازا معروفا. والآية بمعنى آية الصافات: {إِنّا زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكواكِبِ وحِفْظا مِّن كُلِّ شيْطانٍ مّارِدٍ لا يسّمّعُون إِلى الْملإِ الْأعْلى ويُقْذفُون مِن كُلِّ جانِبٍ دُحُورا ولهُمْ عذابٌ واصِبٌ إِلّا منْ خطِف الْخطْفة فأتْبعهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} [الصافات: 6- 10]. {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ} أي: في الآخرة.
{ولِلّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ عذابُ جهنّم وبِئْس الْمصِيرُ} أي: المرجع ذلك العذاب المحرق.
قال الناصر: هذا من الاستطراد؛ لما ذكر وعيد الشياطين استطرد ذلك وعيد الكافرين عموما.
{إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا} أي: لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ، أو لأنفسهم، فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة الصوت، كقوله: {لهُمْ فِيها زفِيرٌ وشهِيقٌ} [هود: 106]، أولها نفسها، تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق، وهو الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة، كصوت الحمار.
{وهِي تفُورُ} أي: تغلي بهم وتعلو.
{تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ} أي: تتفرق أجزاؤها من الغيظ على الذين أغضبوا الله ورسوله، شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره، مبالغ في إيصال الضرر إليه، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية، وهي الغضب الباعث على ذلك. واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ كما في(شرح المفتاح الشريفي)، وأما ثبوت الغيظ الحقيقي لها، بخلق الله فيها إدراكا فبحث آخر، لكنه قد قيل هنا: إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه، لأن {تكادُ} تأباه، كما في قوله: {يكادُ زيْتُها يُضِيءُ} [النور: 35]، وقد صرح به علماء المعاني في بحث المبالغة والغلوّ. وجوز أن يراد غيظ الزبانية؛ فالإسناد مجازيّ، أو على تقدير مضاف، كما في (العناية).
{كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ} أي: جماعة من الكفرة {سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} أي: في الدنيا ينذركم هذا العذاب.
قال في (الإكليل): استدل به على أنه لا تكليف قبل البعثة.
{قالوا بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل اللّهُ مِن شيْءٍ إِنْ أنتُمْ إِلّا فِي ضلالٍ كبِيرٍ} أي: فكذبنا الرسل، وأفرطنا في التكذيب، حتى نفينا الإنزال والإرسال رأسا، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.
{وقالوا لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ} أي: من النذر ما جاءت به، سماع طالب الحق، وعقل من نبذ الهوى {ما كُنّا فِي أصْحابِ السّعِيرِ} أي: في عداد أهل النار.
تنبيهان:
الأول: قال الناصر: لو تفطن نبيهٌ لهذه الآية لعدّها دليلا على تفضيل السمع على البصر، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها.
الثاني: قال ابن السمعانيّ في (القواطع): استدل به من قال بتحكيم العقل.
وقال الزمخشريّ: قيل: إنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
{فاعْترفُوا بِذنبِهِمْ فسُحْقا لِّأصْحابِ السّعِيرِ} أي: فأقروا بجحدهم الحق وتكذيبهم الرسل، فبعدا لهم، اعترفوا أو أنكروا، فإن ذلك لا ينفعهم.
{إِنّ الّذِين يخْشوْن ربّهُم بِالْغيْبِ} أي: يخافونه أو يخافون عذابه، وهم لم يروه {لهُم مّغْفِرةٌ وأجْرٌ كبِيرٌ}
{وأسِرُّوا قولكُمْ أوِ اجْهرُوا بِهِ إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: بضمائرها، فكيف بما نطق به؟ والمعنى: فاتقوه واخشوه.
{ألا يعْلمُ منْ خلق} أي: ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء، والخلق يستلزم العلم كما قال: {وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ} أي: اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم. وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقه، وهو بهذه المثابة، فـ {منْ} مفعول، والعائد مقدر.
قال الغزاليّ: إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطف منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف. و{الْخبِيرُ} هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك والملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس، إلا وعنده خبرها. وهو بمعنى العليم.
{هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا} أي: ليِّنة سهلة المسالك.
{فامْشُوا فِي مناكِبِها} أي: في نواحيها وجوانبها على التشبيه.
قال ابن جرير: لأن نواحيها نظير مناكب الْإِنْساْن التي هي من أطرافه.
{وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} أي: التمسوا من نعمه تعالى.
قال الشهاب: فالأكل والرزق، أريد به طلب النعم مطلقا، وتحصيلها أكلا وغيره، فهو اقتصار على الأهم الأعم، على طريق المجاز أو الحقيقة.
قال: وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها، لم تجد شيئا منها على المرء غير ما أكله، وما سواه متمم له، أو دافع للضرر عنه.
{وإِليْهِ النُّشُورُ} أي: نشوركم من قبوركم للجزاء.
تنبيه:
قال في (الإكليل): في قوله تعالى: {فامْشُوا فِي مناكِبِها وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} الأمر بالتسبب والكسب.
وقال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيّأ فيها من المنافع، ومواضع الزرع والثمار. والمعنى: سافِروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.
{أأمِنتُم مّن فِي السّماء أن يخْسِف بِكُمُ الأرْض} خطاب للكافرين، أي: أأمنتم العليّ الأعلى أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم إلى أسفل سافلين.
{فإِذا هِي تمُورُ} أي: تضطرب وتهتز هزّا شديدا بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم.
{أمْ أمِنتُم مّن فِي السّماء أن يُرْسِل عليْكُمْ حاصِبا} وهو التراب، فيه الحصباء الصغار، {فستعْلمُون كيْف نذِيرِ} قال ابن جرير: أي: عاقبة نذيري لكم، إذا كذبتم به، ورددتموه على رسولي.
وقد بينّ تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطِلهم إذا أصروا، ونصر رسوله، وغلبة جنده، كما قال تعالى: {ولتعْلمُنّ نبأهُ بعْد حِينٍ} [ص: 88].
قال الشهاب: النذير مصدر، والياء محذوفة، والقراء مختلفون فيها: فمنهم من حذفها وصلا، وأثبتها وقفا، ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة، وكذلك الحال في {نكِيرِ}
{ولقدْ كذّب الّذِين مِن قبْلِهِمْ} أي: مع كونهم أشد منهم عددا وعُددا {فكيْف كان نكِيرِ} أي: نكيري تكذيبهم، وذلك بإنزال العذاب بهم ودحرِ باطلهم.
قال القاضي: هو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد لقومه المشركين.
{أولمْ يروْا إِلى الطّيْرِ فوْقهُمْ صافّاتٍ} أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، {ويقْبِضْن} أي: ويضممنها إذا ضربن بها جيوبهن، وقت للاستظهار، ولتجدده عبّر عنه بالفعل إشارة إلى أنه أمر طارئ على الصف، يفعل في بعض الأحيان للتقوي بالتحريك، كما يفعله السابح في الماء يقيمم بدنه أحيانا بخلاف البسط والصف، فإنه الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم.
{وما يمسكهن} أي: في الجو {إِلّا الرّحْمنُ} أي: المقيض لكلّ ما قُدّر له، حسب استعداده بسعة رحمته، ومنه ما دبر للطيور من بنية يتأتى منها الجري في الجوّ.
{إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بصِيرٌ} قال القاشانيّ: أي: فيعطيه ما يليق به، ويسوِّيه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه.
ثم بكّت تعالى المشركين بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه، بقوله: {أمّنْ هذا الّذِي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُم مِّن دُونِ الرّحْمنِ إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ} [20]
{أمّنْ هذا الّذِي هُو جُندٌ لّكُمْ} أي: معشر المشركين {ينصُرُكُم مِّن دُونِ الرّحْمنِ} أي: إن أراد بكم سوءا، فيدفع عنكم بأسه.
{إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ} أي: من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضرّ، أو أنها تقرّبهم إلى الله زلفى.
{أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ بل لّجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ} [21]
{أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ} يعني المطر ونحوها {بل لّجُّوا} أي: تمادوا {فِي عُتُوٍّ} أي: عناد وطغيان {ونُفُورٍ} أي: شراد عن الحق واستكبار مع وضوح براهينه، فأصروا على اعتقاد أنهم يُحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق، مكابرة وعنادا.
{أفمن يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّن يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ} [22].
{أفمن يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّن يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ} تمثيل للضالين والمهتدين. والمكب: هو المتعثر الذي يخرّ على وجهه لوعورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعا وانخفاضا. والذي يمشي سويّا هو القائم السالم من العثار لاستواء طريقه، واستقامة سطحه.
قال القاضي: والمراد تمثيل المشرك والموحِّد بالسالكين، والدينين بالمسلكين. ولعل الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا، أي: فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول.
{قُلْ هُو} أي: المستحق للعبادة وحده، وسلوك صراطه {الّذِي أنشأكُمْ وجعل لكُمُ السّمْع والْأبْصار والْأفْئِدة} أي: العقول والإدراكات {قلِيلا مّا تشْكُرُون} أي: باستعمالها فيما خلقت له.
{قُلْ هُو الّذِي ذرأكُمْ فِي الْأرْضِ} أي: خلقكم فيها لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به {وإِليْهِ تُحْشرُون} أي: للجزاء.
{ويقولون متى هذا الْوعْدُ} أي: الحشر أو الفتح على رسوله وظهور دينه {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين} أي: في الإنذار به، والترهيب منه.
{قُلْ إِنّما الْعِلْمُ عِند اللّهِ وإِنّما أنا نذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بيّن الحجّة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله. وأما تعيين وقته فليس إليّ.
{فلمّا رأوْهُ} أي: ما وعدوا به من العذاب، وزهوق باطلهم {زُلْفة} أي: قريبا، أو ذا زلفة، أي: قرب {سِيئتْ وُجُوهُ الّذِين كفرُوا} أي: ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن {وقِيل} أي: لهم تبكيتا {هذا الّذِي كُنتُم بِهِ تدّعُون} أي: تطلبون وتستعجلون به من الدعاء، أو تدّعون أن لا بعث، من الدعوى {قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أهْلكنِي اللّهُ ومن مّعِي أوْ رحِمنا فمن يُجِيرُ الْكافِرِين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} كان كفار مكة يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون؛ تخلصا من دعوته وانتشارها، فأمر أن يقول لهم ذلك. أي: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم؟.
قال ابن كثير: أي: خلصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم. والمعني بالعذاب: إما الدنيوي وهو خزيهم بالانتصار عليهم، ودحور ضلالهم، أو الأخروي، وهو أشد وأبقى.
{قُلْ هُو الرّحْمنُ آمنّا بِهِ وعليْهِ توكّلْنا} أي: اعتمدنا في أمورنا لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم.
{فستعْلمُون منْ هُو فِي ضلالٍ مُّبِينٍ} أي: في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه منا ومنكم، إذا جاء نصر الله والفتح في الدنيا، ونشأته الثانية في الأخرى.
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} أي: غائرا لا تناله الدلاء، أو ذاهبا في الأرض {فمن يأْتِيكُم بِماء مّعِينٍ} أي: جار ظاهر سهل التناول.
قال الرازي: المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض، فمن يأتيكم بماء معين؟ فلابد وأن يقولوا: هو الله؛ فيقال لهم حينئذٍ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية، وهو كقوله تعالى: {أفرأيْتُمُ الْماء الّذِي تشْربُون أأنتُمْ أنزلْتُمُوهُ مِن الْمُزْنِ أمْ نحْنُ الْمُنزِلُون} [الواقعة: 68]، أي: بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع؛ رحمة بالعباد، فله الحمد. اهـ.